سورة ق - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وقال قرينُهُ} أي: الشيطان المقيض له، أو: الملك الكاتب الشاهد عليه: {هذا ما لديَّ عَتِيدٌ} أي: هذا ما عندي وفي ملكي عتيد لجهنم، قد هيأته بإغوائي وإضلالي، أو: هذا ديوان عمله عندي عتيد مهيأ للعرض، ف {ما} موصولة، إما بدل من {هذا} أو صفة، و {عتيد}: خبر، أو: خبر، و {عتيد}: خبر آخر، أو: موصوفة خبر هذا و لديّ: صفته، وكذا عتيد أي: هذا شيء ثابت لديّ عتيد.
ثم يقول الله تعالى للسائق والشهيد: {ألقيا في جهنم} أو: لملكين من خزنة جهنم، أو: يكون الخطاب لواحد، وكان الأصل: ألقِ ألقِ، فناب{ألقيا} عن التكرار؛ لأن الفاعل كالجزء من الفعل، فكان تثنية الفاعل نائباً عن تكرار الفعل، أو: أصله: ألْقِيَن، والألف بدل من نون التوكيد، إجراء للموصول مجرى الوقف، دليله: قراءة الحسن: {ألْقينْ} والأحسن: أن يُراد جنس قرينه، فيصدق بالسائق والشهيد، فيقال لهما: {ألقيا في جهنم كلَّ كَفَّار} بالنعم والمُنعِم {عنيدٍ}: مجانب للحق، معادٍ لأهله، {منَّاعٍ للخير} كثر المنع للمال عن حقوقه، أو: منَّاع لجنس الخير أن يصل إلى أهله، أو: يراد بالخير الإسلام، لأن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، لَمَّا منع بني أخيه من الإسلام. {معتدٍ} ظالم متخطِّ للحق {مريب}: شاكٍّ في الله تعالى وفي دينه.
{الذي جعل مع الله إِلهاً آخر}: بدل من{كل كَفَّار}ولا يجوز أن يكون صفة؛ لأن النكرة لا توصف بالموصول، خلافاً لابن عطية، أو: مبتدأ مضمن معنى الشرط، خبره: {فألْقِيَاهُ في العذاب الشديد} وعلى الأول يكون{فألقياه}تكريراً للتوكيد، أو مفعولاً بمضمر، يُفسره{فألقياه}أي: ألقِِ الذي جعل مع الله إلهاً آخر ألقياه.
{قال قرينُه} أي: شيطانه الذي قُرن به، وهذا يؤيد أن المراد بالمتقدم جنس القرين، وإنما أُخليت هذه الجملة من الواو دون الأولى؛ لأن الأولى واجب عطفها؛ للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أي: مجيء كل نفس مع ملكين وقول قرينه ما قال له، وأما هذه فهي مستأنفة، كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما في مقاولة موسى وفرعون في وقوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ} [الشعراء: 23- 31] إلى آخر الآيات، فكأن الكافر قال: هو أطغاني، فأجابه قرينُه بتكذيبه فقال: {ربنا ما أطغيتُه ولكن كان في ضلال بعيد} عن الحق، أي: ما أوقعته في الطغيان بالقهر، ولكن طغى واختار الضلالة على الهدى، وهذا كقوله: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ} [إبراهيم: 22]، فالوسوسة والتزيين حاصل منه، والاختيار من الكافر، والفعل لله، لا يُسأل عما يفعل.
{قال} تعالى: {لا تختصمون لَدَيَّ} أي: في موقف الحساب والجزاء، إذ لا فائدة في ذلك، والجملة استئناف جواب عن سؤال، كأن قائلاً قال: فماذا قال الله تعالى لهم؟ قال: لا تختصموا عندي {وقد قَدَّمتُ إِليكم بالوعيد} في دار الكسب على ألسنة رسلي، فلا تطمعوا في الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلُّل بالمعاذير الباطلة. والجملة فيها تعليل للنهي، على معنى: لا تختصموا وقد صحّ عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قالت: {لأملأن جهنم...} إلخ، فاتبعتموه معرضين عن الحق، فلا وجه للاختصام في هذا الوقت. والباء إما مزيدة كما في قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] أو معدية على أن قَدَّم مضارع تقدم.
{ما يُبدّلُ القولُ لَدَيَّ} أي: لا تطمعوا أن يُبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار، {وما أنا بظَلاَّمٍ للعبيد} فلا أُعذب عبداً بغير ذنب مِن قِبلَه، بل بما صدر منه من الجنايات، حسبنا أشير إليه آنفاً. والتعبير عن بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة، فضلاً عن كونه ظلماً مفرطاً لتأكيد هذا المعنى، بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم، وقيل: هو لرعاية جميعة العبيد، من قولهم: فلان ظالم لعبده وظلاّم لعبيده، وقيل: ظلاّم بمعنى: ذي ظلم، كلبّان لذي اللبن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قرين الإنسان نَفْسُه الأمّارة ورُوحه المطمئنة، فإذا غلبت النفسُ على الروح وصرّفت صاحبها في الهوى، تقول يوم القيامة: هذا ما لديّ عتيد، مهيَّا للعتاب، فيقال لهما: ألقيا في نار القطيعة كلَّ كفّار للنعم، جحود لوجود الطبيب، منّاع للخير، فلم يصرفه فيما يخلصه من نفسه، معتدٍ على الله بتكبُّره، وعدم حط رأسه للداعي إلى الله، مُريب، قد لعبت به الشكوك والأوهام والخواطر، أو: شاك في وجود الطبيب، الذي جعل مع الله إلهاً آخر، يُحبه ويخضع له، من الهوى والدنيا، وكل ما أشركه مع الله في المحبة، فألقياه في العذاب الشديد: الحجب عن الله، وعدم اللحوق بأولياء الله، أو العذاب الحسي. قال قرينه- روحه التي كانت سماوية، فصيّرها أرضية، بمتابعة هواه: ربنا ما أطغيته، فإنه ليس الإغواء والإطغاء من شأني، ولكن كان في ضلال بعيد، حيث أطاع نفسه وهواه، ورماني في مزابل الشهوات والغفلة، قال تعالى: {لا تختصموا لَدَيَّ} اليوم، قد قدمت إليكم بالوعيد، حيث قلت: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارة بِالسُّوء} [يوسف: 53] {قَدْ أَفَلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10] وقلت في شأن مَن جاهد نفسه، وردها لأصلها: {ياأيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27] الآية، {ما يُبدلّ القولُ لَدَيَّ} فإني وعدت أهل المجاهدة بالوصول إلى حضرتي، والتنعُّم برؤيتي بقولي: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا...} [العنكبوت: 69] الآية، وأهلَ الغفلة بالحجاب، بقولي: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14، 15]، وما ظلمت أحداً قط، لأن الظلم ليس من شأني، ولا يليق بمُلكي.


يقول الحق جلّ جلاله: واذكر {يوم يقول لجهنم هل امتلأتِ}؟ وقرأ غير نافع وشعبة: بنون العظمة. فالعامل في الظرف: اذكر أو: {بظلاّم} أو محذوف مؤخر، أي: يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال، {وتقول هل من مزيد}؟ أي: من زيادة، مصدر كالمجيد، أو: مفعول، كالمنيع، أي: هل بقي ما يزاد، يعني: أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يُطرح فيها الناس والجِنة فوجاً بعد فوج حتى تملأ {وتقول} بعد امتلائها: {هل من مزيد} أي: هل بقي فيَّ موضع لم يمتلئ؟! يعني: قد امتلأت. أو: أنها من السعة يدخل مَن يدخلها ولم تمتلئ فتطلب المزيد، وهذا أولى.
قال ابن جزي: واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة، أو مجازاً بلسان الحال، والأظهر: أنه حقيقة، وذلك على الله يسير، ومعنى قولها: هل من مزيد: أنها تطلب الزيادة، وكانت لم تمتلئ، وقيل: معناه: لا مزيد، أي: ليس عندي موضع للزيادة، فهي على هذا قد امتلأت، والأول أرجح، لما ورد في الحديث: «لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضعَ الجبارُ فيها قدمه، فتنزوي، وتقول: قَطْ قَطْ» وفي هذا الحديث كلام ليس هذا موضعه. اهـ.
قال في الحاشية: ووضع القدم مَثَلٌ للردع والقمع، أي: يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد. وقال ابن حجر: واختلف في المراد بالقدم، فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة. ثم قال: وقال كثير من أهل العلم بتأويل ذلك، فقيل: المراد إذلال جهنم، فإنها إذا بلغت في الطغيان، وطلبت المزيد، أذلّها الله، كوضعها تحت القدم، وليس المراد حقيقة القدم، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء ظرفاً للأمثال، ولا تريد أعيانها كقولهم: رغم أنفه، وسقط في يده. اهـ. قلت: مَن دخل بحار الأحدية لم يصعب عليه حلّ أمثال هذه الشُبّه، فإن تجليات الحق لا تنحصر، فيتجلّى سبحانه كيف شاء، وبما شاء، ولا حضر ولا تحييز، ولا يفهم هذه إلا أهل الفناء والبقاء بصحبة الرجال.
ثم قال تعالى: {وأُزلفتْ الجنةُ للمتقين} وهو شروع في بيان أحوال المؤمنين بعد النفخ ومجيء النفوس إلى موقف الحساب. وتقديم الكفرة في أمثال هذا؛ إما لتقديم الترهيب على الترغيب، أو لكثرة أهل الكفر، فإن المؤمنين بينهم كالشعرة البيضاء في جلدٍ أسود، أي: قربت الجنة للمتقين الكفر والمعاصي، بحيث يشاهدونها من الموقف، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن، فيبتهجون بأنهم محشورون إليها، فائزون بها، ويأتي في الإشارة بقية بيان، إن شاء الله. وقوله: {غيرَ بعيدٍ} تأكيد للإزلاف، أي: مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر، الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، أو لتأوّل الجنة بالبستان.
{هذا ما تُوعدون} أي: هذا الثواب، أو الإزلاف، ما كنتم توعدون به في الدنيا، وهو حاصل {لكل أواب} أي: رجّاع إلى الله تعالى، {حفيظٍ} لأوامر الله، أو لما استودعه الله من حقوقه، {مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب}: بدل من {أواب} أو مبتدأ، خبره: أدخلوها، على تقدير: يقال لهم: ادخلوها؛ لأن {من} في معنى الجمع، والخشية: انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة أو التقصير أو الهيبة. وقوله تعالى: {بالغيب} حال من فاعل {خشي}، أو من مفعوله، أو صفة لمصدره، أي: خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب عنه، وخشي الرحمن وهو غائب عن الأعين في رداء الكبرياء، لا تراه الأعين الحسية الحادثة، والتعرُّض لعنوان الرحمن للثناء البليغ على الخاشي، حيث خشيَه مع علمه بسعة رحمته، فلم يصدهم علمهم بسعة رحمته عن خوفه تعالى، أو: للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته. {وجاء بقلب منيب} راجع إلى الله، أو سريرةٍ مَرضيةٍ، وعقيدةٍ صحيحة.
يُقال لهم: {ادخلوها بسلامٍ} أي: سالمين من زوال النعم وحلول النقم، أو: ملتبسين بسلام من الله تعالى وملائكته عليكم، {ذلك يومُ الخلود} الإشارة إلى الزمان الممتد الواقع في بعض منه ما ذكر من الأحوال، أي: نهاية ذلك اليوم هو يوم الخلود، الذي لا انتهاء له، {لهم ما يشاؤون فيها} من فنون المطالب ومنتهى الرغائب {ولدينا مزيدٌ} هو النظر إلى وجهه الكريم، على قدر حضورهم اليوم، أو: هو ما لا يخطر ببالهم، ولا يندرج تحت مشيئتهم من الكرامات، التي لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: إن السحاب تمر باهل الجنة فتمطر عليهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال تعالى: {ولدينا مزيد} قلت: مزيد كل واحد على قدر همته وشهوته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يوم يقول لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد، كذلك النفس، نار شهوّاتها مشتعلة كلما أعطيتها شيئاً من حظوظها طلب المزيد، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب، وفي الحديث: «اثنان لا يشبعان: طالب الدنيا وطالب علم، طالب الدنيا يزداد من الله بُعداً، وطالب العلم يزداد من الله رضاً وقُرباً» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الروح إذا عشقت شيئاً فإن كان من الدنيا يُسمى حرصاً، وإن كان في جانب الحق سُمي محبة وشوقاً، وفي الحقيقة ما هي إلا محبة واحدة، إلا أنها لما تاهت انقلبت محبتها للفروقات الحسية، وغابت عن المعاني الأزلية، وكلما زاد في الحرص نقص في المحبة، وما نقص من الحرص زاد في المحبة. ويقال: كلما زادت محبة الحس نقصت المعنى، وبالعكس، وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن بما يلقى فيها من الأمور الحسية، كانت حظوظاً أو حقوقاً، بل كلما ألقي فيها تقول: هل من مزيد، حتى يضع الجبار قدمه، وهو قذف نور معرفته في القلب، فحينئذ يحصل الفناء وتقول: قط قط.
ثم أخبر عن حال المؤمنين بقوله: {وأُزلفت الجنة للمتقين} أي: قربت جنة المعارف إلى قلوب خواص المتقين، الذي اتقوا ما سوى الله، فقربت منهم، ودَخَلوها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قربت إليهم الجنة الحسية في المحشر، فيركبون في قصورها وغرفها، وتطير بهم إلى الجنة، فلا يسحون بالصراط ولا بالنار، وفيهم قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] والناس على ثلاثة أصناف: قوم يُحشرون إلى الجنة مشاة، وهم الذين قال الله فيهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر: 73] وهم عوام المؤمنين، وقوم يُحشرون إلى الجنة ركباناً على طاعتهم، المصورة لهم على صورة المراكب، وهؤلاء الخواص من العباد والزهّاد والعلماء والصالحين، وأما خواص الخواص، وهم العارفون ومَن تعلق بهم، فهم الذين قال الله فيهم: {وأزلفت الجنة للمتقين} تُقرب منهم، فيركبون فيها، ويسرحون إلى الجنة. انظر القشيري.
وقوله تعالى: {هذا ما توعدون} الإشارة إلى مقعد صدق، ولو كان إلى الجنة لقال هذه. قال القشيري. ثم وصف أهل هذا المقام بقوله: {لكل أواب حفيظ} أي: راجع إلى الله في جميع أموره، لا يعرف غيره، ولا يلتجئ إلا إليه، حفيظ لأنفاسه مع الله، لا يصرفها إلا في طلب الله، مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب، أي: بنور الغيب يشاهد شواهد الحق، فيخشى بُعده أو حجبه. قال القشيري: والخشية تكون مقرونة بالأُنس، ولذلك لم يقل: مَن خشي الجبار. ثم قال: والخشية من الرحمن خشية الفراق، ويقال: هو مقتضى علمه بأنه يفعل ما يشاء، لا يُسأل عما يفعل، ويقال: الخشية ألطف من الخوف، فكأنها قريبة من الهيبة. ه {وجاء بقلب منيب} مقبل على الله بكليته، معرض عما سواه، {ادخلوها} جنة المعارف {بسلام} من العيوب، آمنين من السلب والرجوع، وهذا قوله {ذلك يوم الخلود} فيها، لهم ما يشاؤون من فنون المكاشفات، ولذيذ المشاهدات، ولدينا مزيد، زيادة ترقي أبداً سرمداً، جعلنا الله من هذا القبيل في الرعيل الأول، آمين.


يقول الحق جلّ جلاله: {وكم أهلكنا قبلهم} قبل قومك {من قَرْنٍ} من القرون الذين كذَّبوا رسلهم {هم أشدُّ منهم} من قومك {بطشاً} قوة وسطوة، {فنَقَّبوا في البلاد} أي: خرّبوا وطافوا وتصرّفوا في أقطارها، وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذرا من الموت {هل} وجدوا {من مَحيص} أي: مهرب منها؟ بل لَحِقَتهم ودقت أعناقهم، أو: هل وجدوا من مهرب من أمر الله وقضائه؟ وأصل التنقيب والنقب: البحث والطلب، قال امرؤ القيس:
لقد نَقَّبْتُ في الآفاقِ حَتَّى *** رَضِيتُ من الغَنِيمَةِ بالإِيابِ
ودخلت الفاء للتسبُّب عن قوله: {هم أشد منهم بطشاً} أي: شدة بطشهم، أي: قدرتهم على التنقيب في البلاد، ويجوز أن يعود الضمير إلى أهل مكة، أي: ساروا في أسفارهم ومسايرهم في بلد القرون، فهل روأوا لهم محيصاً حتى يُؤملوا مثله أنفسهم؟ ويؤيدهم قراءة مَن قرأ {فنَقِّبوا} على صيغة الأمر.
{إِنَّ في ذلك} أي: فيما ذكر من قصصهم، أو: فيما ذكر في السورة {لَذِكرى} لتذكرة وعظة {لمَن كان له قلبٌ} سليم واعٍ يُدرك كنه ما يشاهده من الأمور، ويتفكّر فيها، ليعلم أن مدار دمارهم هو الكفر، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير، {أو أَلقى السمعَ} أي: أصغى بقلبه إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم، فإن مَن فعله يقف على كنه الأمر، فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر والمعاصي، يقال: ألق إليَّ سمعَك، أي: استمع، ف {أو} لمنع الخلو، لا لمنع الجمع، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب عما ذكر من الصفات، للإذان بأن مَن عَرَى قلبه عنهما كمَن لا قلب له أصلاً. وقوله تعالى: {وهو شهيد} حال، أي: والحال أنه حاضر القلب لا يغفل أو: شاهد على ما يقرأ من كتاب الله.
{ولقد خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما} من أصناف المخلوقات، وهذا أيضاً احتجاج على القدرة على البعث بما هو أكبر، كقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وقوله تعالى {في ستة أيام} إنما خلقها في تلك المدة تعليماً لخلقه التؤدة، وإلا فهو قادر على أن يخلقها في لمحة، {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، ويحتمل أن هذا في عالم الأمر، وأما عالم الخلق فاقتضت الحكمة خلقه بالتدريج، وله الخلق والأمر، ثم قال تعالى: {وما مسَّنا من لُغوبٍ} من إعياء ولا تعب في الجملة، وهذا رد على جهلة اليهود، أنه تعالى بدأ العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، تعالى عما يقولون عُلوّاً كبيراً.
الإشارة: كثيراً ما أهلك اللّهُ من النفوس المتمردة في القرون الماضية، زجراً لمَن يأتي بعدهم، ففي ذلك ذِكرى لمَن كان له قلب سليم من تعلُّقات الكونين.
قال القشيري: فالقلوب أربعة: قلب فاسد: وهو الكافر، وقلب مقفول: وهو قلب المنافق، وقلب مطمئن: وهو قلب المؤمن، وقلب سليم: وهو قلب المحبين والمحبوبين، الذي هو مرآة صفات جمال الله وجلاله، كما قال تعالى: «لا يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن». اهـ. وقال الشبلي: لِمن كان له قلب حاضر مع الله، لا يغفل عنه طرفة عين. وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان: قلب احتشى بأشغال الدنيا، حتى إذا حضر أمرٌ من أمور الآخرة لم يدرِ ما يصنع، وقلب احتشى بالله وشهوده، فإذا حضر أمر من أمور الكونين لم يدرِ ما يصنع، غائب عن الكونين بشهود المكوِّن. وقال القتاد: لمن كان له قلب لا يتلقّب عن الله في السراء والضراء. اهـ. {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي: يشهد ما مِن الله إلى الله، أو: يشهد أسرار الذات. قال القشيري: يعني مَن لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع الله وهو حاضر مع الله، فيعتبر بما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر. اهـ. {ولقد خلقنا السماوات} أي: سماوات الأرواح، وأرض الأشباح، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار، وسر الأسرار، في ستة أيام، أي: ستة أنواع من المخلوقات، وهي محصورة فيما ذكرناه من الأرواح، والأشباح، والنفوس، والقلوب، والأسرار، وسر الأسرار، فلا مخلوق إلا وهو داخل في جملتها، لا يخرج عنها، {وما مسّنا من لُغوب} لأن أمرنا بين الكاف والنون.

1 | 2 | 3